فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روى الواحدي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش من دار الندوة وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأرًا بمن قتل منكم ببدر. فأجمعوا مالًا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره، فركبا البحر وأتيا الحبشة. فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء. وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد، قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك. قال: فدعاهم النجاشي. فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله. فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر. فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته. فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك. ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيًا صادقًا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي السلام تحية أهل الجنة. فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل. قال: أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا. قال: فتكلم. قال: أنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي.
فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلم. فقال جعفر للنجاشي: سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدًا أبقنا من أربابنا فأرددنا إليهم. فقال النجاشي: أعبيد هم أم أحرار؟ فقال: بل أحرار كرام. فقال النجاشي: نجوا من العبودية. قال جعفر: سلهما هل أهرقنا دمًا بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا ولا قطرة. قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: يا عمرو إن كان قنطارًا فعليّ قضاؤه. فقال عمرو: لا ولا قيراط. قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني. قال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنا نكفر بالله عزّ وجلّ ونعبد الحجارة. وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقًا له. فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك. ثم أمر النجاشي فضرب الناقوش فاجتمع إليه كل قسيس وراهب. فلما اجمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًا مرسلًا؟ فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال: اقرأ علي شيئًا مما يقرأ عليكم. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا: يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه. فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم. فلما أتى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذى العين وقال: والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم. قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو: يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤا من عنده ومن اتبعهم. فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم.
ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال: إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة. قال جعفر: وانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار، وأنزل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بالمدينة قوله: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} على ملته وسنته في زمانه {وهذا النبي} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم {والذين آمنوا} في آخر الزمان {والله ولي المؤمنين} بالنصرة والتأييد والتوفيق والتسديد. ومعنى {أولى الناس} أخصهم به وأقربهم منه من الولي القرب. وقرئ {وهذا النبي} بالنصب عطفًا على الهاء في {اتبعوه} وبالجر عطفًا على {إبراهيم} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إن أولى الناس الآية» ثم بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات وإبداء المكايد كما أرادوا بحذيفة وعمار ومعاذ بن جبل وقد ذكرناه في سورة البقرة.
{وما يضلون إلا أنفسهم} لأن وبال الإضلال يعود عليهم فيضاعف لهم العذاب بالضلال والإضلال، أو وما يقدرون على إضلال المؤمنين وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم {وما يشعرون} أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. ثم وبخهم على قبائح أفعالهم بطريق الاستفهام فقال: {لم تكفرون بآيات الله} قيل: أي بالتوراة والإنجيل لما فيهما من البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا، أو أن الدين عند الله الإسلام، ومعنى الكفر بالتوراة والإنجيل إما الكفر بما يدلان عليه فيكون قد أطلق اسم الدليل على المدلول، أو الكفر بنفس التوراة والإنجيل لأنهم كانوا يحرّفونهما وينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى {وأنتم تشهدون} أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها، وعلى هذا فيكون في الآية إخبار عن الغيب فيكون معجزًا. وقيل: آيات الله في القرآن وشهادتهم أنهم يعرفون في قلوبهم أنه حق. وقيل: آيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى تشهدون أنكم تعترفون بدلالة المعجزة على صدق المدعي. ثم لما وبخهم على الغواية أردفه التوبيخ بالإغواء. وهو إما بإلقاء الشبهات في الدين وهو معنى لبسهم الحق بالباطل، وإما بإخفاء الدلائل وهو كتمانهم الحق.
عن الحسن وابن زيد: حرفوا التوراة فخلطوا المنزل بالمحرف.
وعن ابن عباس: أظهروا الإسلام في أول النهار ثم رجعوا عنه في آخره تشكيكًا للناس. قيل: إن في الكتابين ما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والبشارة به وفيهما ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه في القرآن.
فلبسوا على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعل كثير من المشبهة. وهذا قول القاضي. وقيل: كانوا يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم معترف بأن شرع موسى حق، ثم إن التوراة دلت على أنه لا ينسخ، وكل ذلك إلقاء الشبهات. وأما كتمان الحق فهو أن الآيات الدالة في التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان الاستدلال بها مفتقرًا إلى التدبر والتأمل، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي بمجموعها يتم الاستدلال كما يفعل المبتدعة في زماننا {وأنتم تعلمون} أنكم إنما تفعلون ذلك عنادًا وحسدًا، أو تعلمون أنكم من أهل المعرفة، أو تعلمون حقيتها، أو أن عقاب من يفعل هذه الأفعال عظيم والله حسبي. اهـ.

.فوائد بلاغية:

.قال أبو حيان:

وفي هذه الآيات أنواع من البديع.
الطباق في قوله: {الحق بالباطل}، والطباق المعنوي في قوله: {لم تكفرون وأنتم تشهدون}، لأن الشهادة إقرار وإظهار، والكفر ستر.
والتجنيس المماثل في: {يضلونك وما يضلون} والتكرار في: {أهل الكتاب}.
والحذف في مواضع قد بينت. اهـ.

.قال في صفوة التفاسير:

البلاغة:
جمعت هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبلاغة ما يأتي:
- المجاز في قوله: {إلى كلمة} حيث أطلق اسم الواحد على كلمة التوحيد لا إله إلا الله، محمد رسول الله،- والتشبيه في قوله: {أربابا} حيث شبه طاعتهم لرؤساء الدين في أمر التحليل، بالرب المستحق للعبادة،- والطباق في قوله: {الحق بالباطل}.
- والجناس التام في قوله: {يضلونكم وما يضلون}.
- وجناس الاشتقاق في {أولى} و{ولى}.
- والتكرار في عدة مواطن، والحذف في عدة مواطن. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

قرأ العامة: {تَلْبِسُونَ} بكسر الباء، من لبس عليه يلبس، أي: خلَطه، وقرأ يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه- على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز {تُلبِّسُون}- بضم التاء، وكسر الباء وتشديدها- من لبَّس بالتشديد، ومعناه التكثير.
والباء في الباطل للحال، أي: متلبسًا بالباطل.

.فصل في معنى: {تلبسون الحق}:

{تَلْبِسُونَ} تخلطون {الحق بالباطل} الإسلام باليهودية والنصرانية.
وقيل: تخلطون الإيمان بعيسى- وهو الحق- بالكفر بمحمد- وهو الباطل-.
وقيل: التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل، الذي حرَّفتموه، وكتبتموه بأيديكم، قاله الحسنُ وابن زيد.
وقال ابنُ عباس وقتادةُ: تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكًا للناس.
قال القاضي: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة، ويكون في التوراة- أيضا- ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر.
وقيل إنهم كانوا يقولون: إنَّ محمدًا معترفٌ بأن موسى حَقٌّ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ، وكل ذلك إلقاء للشبهات.
قوله: {وَتَكْتُمُونَ الحق} جملة مُسْتَأنَفةٌ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار أن في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاجُ- من البصريين- والفرّاءُ- من الكوفيين- فيه النصب- من حيث العربية- تسقط النون، فينتصب على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار أن عند البصريين.
ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ، وأنكَرَه، وقال: الاستفهام واقع على اللبس فحسب، وأما {يَكْتُمُونَ} فخبر حتم، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفًا على {تَلْبِسُونَ}، بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ.
ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال: الصَّرْف- هنا- يَقْبُح، وكذلك إضمار أن لأن {تَكتُمُونَ} معطوف على موجب مقرَّر، وليس بمستفهَم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم: لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ، وليس بمنزلة قولك: أيقومُ فأقومَ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب- إلا في ضرورة الشعر- كما رُوِي: [الوافر]
.................................. ** وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا

قال سيبويه- في قولك: أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا-: لا يجوز إلا النَّصْبُ في تداخلها لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب، وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلُها؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
قال أبو حيّان: وظاهر هذا النقل- عنه- معارضتُه لما نقل عنه قبله؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب، وأما {يَكْتُمُونَ} فخبر حَتْمًا، لا يجوز فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ {يَكْتُمُونَ} معطوف على موجَب مقرَّر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس، وسبب الكَتْم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى، وبين أن يكون {يَكْتُمُونَ} إخْبارًا محضًا، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل، لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك، فقال في تسهيله: أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ.
فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه، نحو: لِمَ ضربتَ زيدًا فيجازِيَك؛ لأن الضرب قد وقع. ولم يشترط غيرُهما- من النحويين- ذلك، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله- إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال؛ لأجل مُضِيِّ الفعل- فإنما يقدر مصعد مقدَّرًا استقبالُه بما يدل عليه المعنى، فإذا قلت: لِمَ ضربتَ زيدًا فاَضْرِبَك؟ فالتقدير: ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لاسيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم- أيضا- لأنه- كما تقدم- إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ، محقَّق الوقوع، مستفهَم عنه، نحو: أين ذهب زيد فنتَّبعُه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ وكم مالك فنعرفُه؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة، فإن التقدير: ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا.
قال شهابُ الدِّينِ: وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ، فإنه لم يُقْرَأ- لا في الشاذ ولا في غيره- إلا ثابتَ النون، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث، تنقيحًا للذهن.
ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير، وهي: لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين- وهي قراءة قراءة لا تَبْعد عن لَغطِ البحث، كأنه توهم أن لَمْ هي الجازمة، فجزم بها، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ- هنا- أنهم يجزمون بلم حملًا على لم- نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم، ولا أظن نحويًّا يقول ذلك ألبتة، كيف يقولون في جار ومجرور: أنه يَجْزِم؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولابد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفًا؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها، ومن ذلك قراءة بعضهم: {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48]- بتشديد الظاء- الأصل: تتظاهران، فأدغم الثاني في الظاء، وحذف النون تخفيفًا، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا...» يريد عليه السلام: لا تدخلون، ولا تؤمنون؛ لاستحالة النهي معنًى.
وقال الشاعرُ: [الرجز]
أبِيتُ أسْرِي، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي ** وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي

يريد تبيتين وتدلُكين.
ومثله قول أبي طالب: [الطويل]
فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ** سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحًا غَيْرَ بَاهِلِ

يريد: ستحتلبونها.
ولا يجوز أن يُتَوهَّم- في هذا البيت- أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط، لأن الفاء مُرادَة وجوبًا؛ لعدم صلاحية ستحتلبوها جوابًا؛ لاقترانه بحرف التنفيس.
والمراد بالحق: الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومتعلق العلم محذوف، إما اقتصارًا، وإما اختصارًا- أي: وأنتم تعلمون الحق من الباطل، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم، وتعلمن أنكم تفعلون ذلك عنادًا وحسدًا. اهـ.